العمامة البيضاء ليست قطعة قماش، بل عهد نورٍ ووعد سكينة

بقلم الدكتور نضال العنداري
العمامة البيضاء… ليست مجرّد قطعة قماش تلفّ الرأس، بل هي هالة من نورٍ ينسدل على الجبين كما ينسدل الوحي على الأرواح الظامئة للهداية.
هي رمزٌ يختصر آلاف السنين من السعي إلى النور، من السير في درب الأنبياء والأولياء، من حمل أمانة الكلمة الصادقة، والوقوف على عتبات الحق مهما جار الزمان وتقلبت الرياح.
هي التاج الذي لا يُصاغ من ذهب، بل من صدق النية، ومن دمعة السحر، ومن سجدة خاشعة في ليلٍ طويل، تهتف فيها الأرواح “إياك نعبد وإياك نستعين”.
هي علامة رجالٍ لم يركنوا إلى الدنيا، ولم يلهثوا خلف بريقها، بل عقدوا عهدًا مع السماء أن يكونوا للناس سراجًا وهّاجًا، وبلسمًا لأوجاعهم، ودعاءً لا ينقطع في ظهر الغيب.

العمامة البيضاء هي شرفٌ لا يُشترى، ووقارٌ لا يُمنح، بل يُكتسب بجهاد النفس، وبخدمة الناس، وبالوقوف على مفترقات الطريق كمنارةٍ تهدي الحائرين، وتربت على كتف المنكسرين.
هي حكاية عزٍ في صمت، ومجدٍ لا يلوّثه صخب، وراية بيضاء خُطَّت أطرافها بالحكمة، وسُقيت بالخلوات والوصايا، لتحملها هاماتٌ عرفت الحق، فكانت له أهلاً، وبه ناطقة.
عمائم بني معروف، هي أكثر من مجرد عمائم .بل هي صفحات من نور، كُتبت بحبر الإيمان، وسُطّرت فوق رؤوسٍ اختارت أن تكون للحق صوتًا، وللمعرفة نبعًا، وللناس ملاذًا.
هي رسائل سماوية تمشي على الأرض، يحملها شيوخٌ هم امتدادُ الرسالات، ومرايا الأنبياء، رجالٌ ما نطقوا إلا صدقًا، ولا ساروا إلا حيث يرضى الله.
هؤلاء الشيوخ، أصحاب العمائم البيضاء، لا يعرفون التكلّف ولا التصنع، بل يسيرون بين الناس بقلوبٍ وضيئة، لا يُظهرون زهدهم ولا يفخرون بتقواهم، لأن النور لا يحتاج إلى إعلان، والحكمة لا تحتاج إلى تزيين.
هم أولئك الذين إذا تكلموا، سكت الضجيج. وإذا صمتوا، تحدّثت ملامحهم بما لا يُقال. في وقارهم سكينة، وفي هيبتهم رحمة، وفي خطواتهم حكمةٌ تسري كما يسري النسيم في ليالٍ ساكنة.
العمامة ليست مجرد لباسٍ على الرأس، بل عهدٌ على الكتف، وسجدةٌ على القلب، وبيعةٌ للصبر والعلم والتواضع.
هي امتدادٌ لسلسلةٍ من رجالٍ عاشوا في الكهوف والمعابد، بين كتبٍ لا يغشاها الغبار، وبين أرواحٍ تصقلها المجاهدة، فصاروا هداةً، لا بوعظٍ فقط، بل بقدوةٍ ظاهرة، وخلقٍ لا يُخطئه أحد.
هي حضورٌ يتعدى المسافات، يتجاوز الأزمنة، إذ تبقى كلمتهم في المجالس كأنها بوصلة، وتظل صورتهم في الذاكرة كأنها ظل شجرةٍ في هجير الحياة.
هم الساكنون في وجدان الأمة، وفي ذاكرة القرى، وفي وجوه العابرين الذين يرفعون البصر بخشوع إذا ما لمحوا عمامةً بيضاء تمرّ، كأنها ذكرٌ لله على هيئة بشر.
هكذا هم…
أبناء الصمت الناطق، ورثة النور الذي لا يغيب، أصحاب العمائم التي إذا انحنت، إنما تنحني لله، لا لغيره.
هي مرآةٌ للنية الصافية، فكل من يلبسها يحمل معه أمانة تجاه الله والناس، يعكس تلك النية الطيبة في سلوكه وكلامه، في كل فعلٍ من أفعاله. هي صمتٌ معبر، كلما تٌقليلة ولكنها مؤثرة، مثلما تكون الحكمة في الزهد، وفيالقدرة على التحدث حين يتطلب الأمر، والصمت حينيكون الكلام عبئًا. هي ضوءٌ في قلب العاصفة، بركةٌ فيبحر من الجهل.
أما هيبة صاحبها، فليست من الناس، بل من خلوصه معالله، ومن صفائه الداخلي الذي ينعكس على أفعاله وتصرفاته. ليست هيبة تُكتسب من منصب أو مال، بلهيبةٌ تُكتسب من صدق النية وطهارة القلب، ومن العمل الذي لا يطلب جزاء إلا من الله.
سلامٌ على العمائم البيضاء،
سلامٌ على أولئك الذين حملوها بصدقٍ ووفاء، الذين جعلوامن لبسها عهدًا لا مظهرًا، نذرًا لله لا زينةً للنفس. سلامٌ على من لبسوها تواضعًا واحتسابًا، لا تكبّرًا ولا فخرًا،فكلما زادت مسؤوليتهم، ازداد تواضعهم وتعبدهم. هؤلاءهم من علموا أن العمل لله هو العمل الأسمى، وأن خدمة الناس هي السبيل الوحيد لتحقيق رضا الله.
سلامٌ على أولئك الذين جعلوا العمامة البيضاء وسيلةً لتحقيق الكمال الروحي، وليس غايةً في حد ذاتها. وهم الذين أدركوا أن الجمال ليس في الشكل الظاهر بل في جوهر النية الطاهرة، الذين وقفوا في دروب الزما نوالظرف الصعب، متمسكين بمبادئهم، مخلصين في رسالتهم.