خاص MDM News

وجدي مراد: ربع قرن من صناعة الأمل في عاليه

بقلم الدكتور نضال العنداري

رجلٌ صنعَ مدينةً من رحم التحديات
في قلب جبل لبنان، حيث تتعانق غابات الصنوبر العتيقة مع ذاكرة بلدةٍ عاصرت الحضارات من الفينيقيين إلى اليوم، تقف عاليه شاهدةً على معجزةٍ إنسانية صنعها رجلٌ واحد. وجدي مراد ليس مجرد رئيس بلدية، بل هو حكايةٌ عن إرادةٍ حوَّلت تحديات الجبال الوعرة إلى سلمٍ يصعد به أبناء الوطن نحو المستقبل.
عندما تسلَّم مهامه قبل ربع قرن، كانت عاليه تُشبه كثيرًا من بلدات لبنان: طرقاتٌ ترابية تنقطع عند أول عاصفة، شُحٌّ في الخدمات يدفع الشباب إلى الهجرة، وهمومٌ يومية تُغلق الأبواب أمام الأحلام. لكنَّ هذا الرجل، ابن الأرض الذي رفض أن يكون حارسًا للوضع القائم، قرر أن يُعيد تعريف العطاء: ليس كصدقةٍ عابرة، بل كـ مشروعٍ تنمويٍ يلامس الجذور ويبني القمم.
من خلال رؤيةٍ جمعت بين حِسّ المهندس الدقيق وقلب الأب الحاني، حوَّل مراد البلدية من مكتبٍ لإصدار التراخيص إلى ورشةٍ دائمةٍ للإبداع المجتمعي. فتحت إدارته أبواب المشاركة أمام الأهالي، فلم تعد المشاريع تُنفَّذ لهم بل بهم، في نموذجٍ نادرٍ للديمقراطية التشاركية. هكذا، تحوَّلت ميزانية البلدية من أرقامٍ جامدة إلى نبضٍ حيٍ يُترجم أحلام الناس إلى طرقاتٍ معبَّدة، ومنظومة طاقةٍ شمسية، ومراكزَ تُعيد إحياء الحرف اليدوية المندثرة.
اليوم، بينما تغرق مدنٌ لبنانيةٌ في ظلام الأزمات، تُقدِّم عاليه درسًا في كيف يُمكن لـ العزيمة المحلية أن تصنع النموذج الوطني. ليست القصة هنا عن إنجازاتٍ ماديةٍ فحسب، بل عن فلسفةٍ عميقةٍ يؤمن بها مراد:
“لا تُقاس التنمية بعدد الأبنية، بل بعدد الأطفال الذين يُمكنهم أن يحلموا بمستقبلٍ هنا… دون أن يضطروا لبيع أحلامهم في مطارات الاغتراب”.

هذه السيرة، التي نستعرضها في السطور التالية، هي إضاءةٌ على مسيرةٍ لم تُغيِّر وجه عاليه فحسب، بل أثبتت أن القيادة الحقيقية هي التي تُذيب اليأس بصبرٍ طويل، وتصنع من الحجر والماء والشمس… حياةً تُشرق.

الجذور والانطلاق – من الخدمة المجتمعية إلى قيادة البلدية
وُلد وجدي مراد في أحضان عاليه، المدينة الجبلية التي تُشبه متحفًا طبيعيًّا مفتوحًا، حيث تختزل الحجرات القديمة حكايات العثمانيين، وتهمس غابات الصنوبر بأسرار مقاومة الاحتلال الفرنسي. تربى في كنف عائلةٍ عُرفت بـ “عائلة الأرض”، كما يُلقبها الأهالي، إذ كان جده الشيخ خليل مراد أحد قادة ثورة 1925 ضد الانتداب، بينما عمل والده مُدرسًا للتاريخ، غارسًا فيه منذ الطفولة مقولةً أصبحت شعارًا لمسيرته:
“من لا يعرف قيمة تراب وطنه، لن يُغيِّر واقع أبنائه”.

البدايات: مدرسةُ الخدمة العامة في ظل الحرب
في ثمانينيات القرن الماضي، بينما كان لبنان يعاني أوجاع الحرب الأهلية، بدأ وجدي مراد مسيرته كـ فاعلٍ مجتمعي من خلال جمعية “أبناء عاليه”، التي أسسها مع مجموعة من الشباب المتحمسين. لم تكن مبادراته تقليديةً آنذاك:

  • مشروع تنظيف نبع الشرايط: حيث قاد فريقًا من المتطوعين لإزالة الأنقاض المتراكمة منذ سنوات، معتمدًا على أدوات بدائية، ليعود النبع مصدرًا للمياه النظيفة لأكثر من 100 عائلة.
  • حملة “الجبل أخضر”: غرس خلالها 5,000 شجرة صنوبر في مناطق مُعرَّضة للتآكل، بدعمٍ من منظمة “أرض الإنسان” الدولية.
    هذه التجارب كشفت عن رؤيته الاستباقية، حيث لم يكتفِ بإصلاح الواقع، بل حوَّل كل مشروعٍ إلى فرصةٍ لتعليم الأهالي مفاهيم الاستدامة. يقول أحد مؤسسي الجمعية، نقولا حمود:
    “كان وجدي يُصرُّ على تدريب الشباب على صيانة الينابيع بأنفسهم… كنا نعتقد أنه حالم، لكنه أثبت أن الحلم يُبنى بالعرق”.
    التحوُّل إلى العمل البلدي: من الاحتجاج إلى البناء
    مع نهاية الحرب، دخل مراد مرحلةً جديدة من العمل العام. في عام 1998، قرر خوض معركة الانتخابات البلدية، مدفوعًا بإحباطه من سياسات البلدية التي رأى أنها “تُدير المدينة وكأنها مزرعةٌ خاصة”. حملتُه الانتخابية اعتمدت على شعارٍ بسيطٍ لكنه ثوري:
    “البلدية بيتكم… فلمَ لا نبنيه معًا؟”.

السياحة: إحياء الهوية كبوابةٍ ثقافية
أدرك مراد مبكرًا أن عاليه – بموقعها الاستراتيجي بين بيروت ووادي البقاع – قادرة على أن تكون وجهةً سياحيةً فريدة. فأنشأ:

  • مسارَين سياحيَّين عبر الغابات، مزودين بخدمات إرشادية رقمية تُظهر التنوع البيولوجي للمنطقة.
  • مهرجان “عاليه تُزهر” السنوي، الذي جذب أكثر من 50 ألف زائر في نسخته الأخيرة، وحوَّل المدينة إلى لوحةٍ فنيةٍ مفتوحة.
  • شراكاتٍ مع منظمات دولية لإدراج غابات عاليه ضمن قائمة اليونسكو للمحميات الطبيعية.
    التمكين الاجتماعي: التعليم والصحة فوق كل اعتبار
    لم تكن مشاريعه ماديةً فحسب، بل شملت:
  • تأسيس مركز تدريب مهني مجاني بالتعاون مع جمعية المرأة الدرزية، خرَّج أكثر من 800 شاب وشابة في مجالات السياحة والطاقة المتجددة.
  • إنشاء عيادات طبية متنقلة تخدم القرى النائية، مع توفير أدوية مجانية لكبار السن عبر صندوق دعمٍ خاص أُنشئ بتمويلٍ بلديٍّ ومساهمات أهلية.

فلسفته في العطاء – دروسٌ في القيادة المجتمعية
“المجتمع شريكٌ لا متلقٍّ”
يؤمن مراد بأن نجاح أي مشروعٍ مرتبطٌ بمشاركة الأهالي. ففي حواره مع “جنوبيات”، قال:
“لا ننفذ مشروعًا حتى نناقشه مع الناس في المقاهي والجمعيات… أحيانًا يعدلون خططنا بأفكارٍ أبسط وأنجح”.
هذا النهج تجسَّد في مشروع إعادة تأهيل السوق القديم، حيث شارك التجار في التصميم، ما خلق مساحةً تجمع بين الحداثة وروح التراث.

الشفافية: سلاحٌ ضد الفساد
في زمنٍ يعاني لبنان من أزماتٍ ماليةٍ طاحنة، حافظت بلدية عاليه على سمعتها كواحدةٍ من أنظف الإدارات. يعزو مراد ذلك إلى:

  • نشر تقارير مالية ربع سنوية بشكلٍ علني، تتضمن كل مصروفات البلدية حتى الصغيرة منها.
  • إنشاء منصة إلكترونية لتلقّي شكاوى المواطنين، مع متابعة كل حالة شخصيًا.

العطاء في زمن الانهيار: درسٌ في المرونة
رغم التحديات الاقتصادية التي أثرت حتى على قدرة البلدية في دفع رواتب الموظفين، استمر مراد في ابتكار حلول:

  • تحويل جزءٍ من ميزانية البلدية إلى صندوق طوارئ لدعم الأسر المتضررة من الأزمة المالية.
  • التعاون مع المغتربين اللبنانيين لتمويل مشاريع الطاقة الشمسية، واصفًا الاغتراب بـ “رئة لبنان النابضة بالحياة”.

عاليه المدينة التي هزمت اليأس
قبل ربع قرن، كانت عاليه مجرد نقطة على خريطة لبنان، تعاني من طرقاتٍ ترابية تنقطع مع أول عاصفة، وشبابٍ يهاجرون بحثًا عن فرصٍ غائبة، وهمومٍ يومية تُغلق الأبواب أمام الأحلام. اليوم، بفضل وجدي مراد – رئيس بلدية عاليه لأكثر من 25 عامًا – تحوَّلت البلدة الجبلية إلى نموذجٍ للتنمية المتوازنة التي تجمع بين الحداثة واحترام الهوية.
لم يكتفِ مراد ببناء الطرقات وتطوير البنى التحتية، بل حوَّل البلدية إلى ورشة إبداع مجتمعي، حيث أصبح الأهالي شركاء في صناعة القرار. ففي مشروع “فيغا” للإستثمار في القروض الصغيرة المموَّل من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، تمكَّن من توفير قروضٍ بقيمة 6 ملايين دولار لـ6,700 مستفيد، داعمًا مشاريع سياحية وزراعية ومعلوماتية تُعيد إحياء الاقتصاد المحلي هذه المبادرة لم تُحرِّك عجلة التنمية فحسب، بل عزَّزت ثقة الأهالي بقدرتهم على صناعة التغيير.
“الوطن لا يحتاج إلى أبطال خارقين، بل إلى أناسٍ عاديين يرفضون الاستسلام” – وجدي مراد في حواره الأخير.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى