صمت الجرس… ورحل حامل السلام

بقلم الدكتور نضال العنداري
في صباحٍ مُبلَّلٍ بالحزن، ومُثقَلٍ بالدموع، أُسدِل الستار على فصلٍ نادرٍ من فصول الإنسانية برحيل رجلٍ لم يكن مجرد بابا، بل كان أبًا للقلوب التائهة، وملجأً للأرواح المتعبة، وضميرًا نقيًا يتكلم بلغة المحبة. رحل قداسة البابا فرنسيس، خورخي ماريو برغوليو، بعد عمرٍ طويلٍ من العطاء، ناهز الثمانية والثمانين عامًا، تاركًا خلفه إرثًا يفيض رحمةً وصدقًا وإيمانًا نادرًا.
وُلد في بوينس آيرس، تلك المدينة الصاخبة التي لم تمنع طفولته من أن تكون متأملة، حالمة، نابضة بالبساطة والحنان. كبر الطفل الذي كان يحب الجلوس في الكنيسة بصمت، وأصبح لاحقًا الصوت الذي هزّ جدرانها بنداءات الصدق. لم يكن صعوده إلى سدة البابوية عام 2013 لحظة احتفال تقليدية، بل كان بداية عهدٍ روحيٍّ جديد، حيث أعاد للكرسي البابوي بريقه الإنسانيّ، وألبسه ثوب التواضع بدلاً من التاج الذهبي.
اختار أن يعيش كواحدٍ من الناس، يُقلِّب همومهم، يُشاركهم خبزهم، يسمع آهاتهم. ترك قصر البابوات، واختار مسكنًا بسيطًا. ترك الخطابات الخشبية، وتحدث بلغة القلب. حين كان العالم يزداد صخبًا، كان صوته الناعم يتردد: “الرحمة أهم من الدينونة… الحب أقوى من كل جدار.”
كان قداسته إصلاحيًا لا يحب الصدام، لكنه لا يهرب من الحقيقة. فتح أبواب الكنيسة للنساء، للمهاجرين، للفقراء، للمهمشين، للمجتمع الميم. لم يكن يدعوهم ليُدينهم، بل ليفتح معهم صفحة جديدة من القبول، من الإنسانية، من الاحترام.
واجه بأبوةٍ حنونةٍ ملفات الاعتداءات الكنسية، واعترف بالأخطاء، وطلب الغفران، لا للضعف، بل للشجاعة. أصر أن الكنيسة لا تعيش على معصيتها، بل على توبتها. كانت له قدرة استثنائية على لمس الجراح دون أن يفتحها، وعلى منح الأمل دون أن يُنكر الألم.
وفي سنواته الأخيرة، ومع تدهور صحته، لم تغب صلاته عن فلسطين، عن غزة، عن أطفال الشرق الذين تحاصرهم النيران. كان يقول: “صلّوا من أجل السلام، لا تتعوّدوا على صوت الحرب.” كانت كلماته الأخيرة، لا وصية لكرسي، بل وصية للعالم: افتحوا قلوبكم قبل أن تفتحوا كتبكم.
رحل البابا فرنسيس، فارتجف الفاتيكان، وبكت مذابحه، وارتفعت الصلوات من كنائس الشرق، ومساجد الجنوب، ومعابد الهند، فقد كان الرجل للإنسانية جمعاء. لم يكن يُصنف الناس، بل يراهم كما هم: بشرًا، يستحقون الرحمة، لا الحكم.
سيرته ستظل منارة في طريق القادة، ودروسه ستبقى في وجدان الأجيال القادمة. سيبقى اسمه مرادفًا للتواضع، للعدالة، للسلام، لثورةٍ بيضاء قادها على عرشٍ لم يرفعه بل تواضع به.
سلامٌ لروحه النقية، وسلامٌ لعصرٍ حمل اسمه، وسلامٌ لذاك الرجل الذي اختار أن يكون صدىً للصمت، ودفءً للبرد، ويدًا تمسح عن الأرض خطاياها بالحب.
قداسة البابا فرنسيس…
لم ترحل، بل سكنت في ضمير العالم…
سلامًا لك، يا من أحببت الناس كما هم، وعلّمتنا أن نحب الله في وجوههم.